الخميس، 27 نوفمبر 2014

آثار وادي ضباء

" آثار وادي ضباء "   -  بقلم/ د. علي إبراهيم غبان

● آثار وادي ضباء :
توجد في أعلى وادي ضباء نقوش كوفية يرجع تاريخها إلى القرنين الهجريين الثاني والثالث، وفي منزل الحاج بهذا الوادي توجد أربع آبار مطوية بالحجر الجيري المنظم، ثلاثة منها قديمة حفرت في القرن الحادي عشر الهجري ( 17م) تعرف محليا باسم الآبار السلطانية، أما البئر الرابعة فقد قامت بحفرها وبنائها في منتصف القرن الماضي أسرة آل سحلة من سكان ضباء. وتشير المصادر إلى بركة كانت مبنية بهذا الوادي إلى جوار الآبار السلطانية برسم خدمة الطريق، ولم يبق من هذه البركة في الوقت الحاضر أي أثر . وفي الطرف الجنوبي الغربي للوادي كانت توجد بركة أخرى صغيرة، عرفت في الوثائق باسم الفسقية، وتقع بالقرب من ضريح الشيخ البغدادي إلى الغرب من بستان الشيخ علي حامد غبان، وابن عمه مسلم موسى غبان، وإلى الجنوب من بستان الشامي. وقد أزيلت هذه الفسقية مع ضريح الشيخ البغدادي في بداية القرن العشرين.
والجدير بالذكر أن وادي ضباء كانت به في بداية القرن الخامس الهجري سبعة آبار عذبة.

● آثار وادي الهاشة :
ويقع هذا الوادي شمال ضباء، على بعد 1 كم فقط، وبه آبار تركية قديمة مطوية بالحجر الجيري المنظم. إحداها عرفت في مصادر العصر العثماني باسم بئر الدُويدار .

● آثار وادي الغال :
يقع هذا الوادي بين ضباء والمويلح، وبه بئران قديمتان مطويتان بالحجر الجيري المنظم، هما الباقيتان من ثلاث آبار حفرت في بداية القرن الثاني عشر الهجري، على نفقة فاعل خير مصري اسمه إبراهيم الفكاري. ويعرف هذا الوادي في مصادر العصرين المملوكي والعثماني باسم وادي القسطل، والقسطل : هو نبات الحنظل .

-مصدر البحث :
كتاب [ الآثار الإسلامية في شمال غرب المملكة] ص 239 - 240
تأليف الدكتور علي إبراهيم غبان.

الأربعاء، 12 نوفمبر 2014

ذكريات مع بدر شاكر السيّاب

"ذكريات مع السيّاب"   -   بقلم/ محمد الماغوط

في عام 1960م، كنت عاطلاً عن العمل. وكانت العروبة نفسها عاطلة عن العمل، ويا ليتها ظلت كذلك.. وكنت حينذاك ضيفاً على مجلة “شعر” وأسرة التحرير كلها ضيفة على صاحبها يوسف الخال. ويوسف الخال ضيفا على شارع السادات في رأس بيروت. في هذه الأثناء حلَّ بدر شاكر السياب (بأناقته المعروفة) ضيفاً على الجميع، وهو يمشي قدماً في الشرق وقدماً في الغرب بسبب تباشير الروماتيزم في ركبته. ولما كان بريئاً وساذجاً ولا يعرف أن يتحرك بمفرده فقد كلفني يوسف الخال بمرافقته طوال إقامته هناك، وأوصاني وهو يسلمني إياه: لا تعذبه، إنه شاعر كبير.
ومن أول المشوار توطدت عرى الصداقة فيما بيننا، خاصة بعد أن أهداني في لحظة انفعال كرافيت من نوع سيلكا أو سمكا، لم أعد أذكر، عربوناً على صداقتنا الأبدية، وبدأت مهمتي في إطلاعه على الحياة الثقافية في بيروت فأخذته من ذراعه وقلت له: هذا هو الشارع الفلاني، وهذه هي السينما الفلانية. في هذا المطعم يجلس أركان الناصريين ليهاجموا القوميين. وفي هذا المطعم يجلس أركان القوميين ليهاجموا الناصريين والشيوعيين. وفي هذا المقهى يجلس أركان مجلة “شعر” ليهاجموا الجميع، متخذا كل واحد منهم أفضل طاولة وأفضل واجهة من الصباح إلى المساء على فنجان قهوة وخمسين كأس ماء بنصف ليرة. وعند هذه الزاوية بالذات سحبني صاحب المقهى من يدي وقال لي: إما أن تخلصني منهم، وأما أهدم المقهى وأحوله إلى محل لبيع الشاورما، كرمى ليوسف الخال وشعره الحديث.
وكان بدر يضحك كالأطفال من هذه المعلومات، وكنت بدوري أكثر سعادة منه وأنا أقوم بمهمتي خير قيام لصالح الشعر والحرية حسب مفهومي. ولكن ما أن انتهينا من الشوارع العريضة والمناطق السكنية، وبلغنا منطقة الأسواق التجارية والشوارع المزدحمة، حتى أخذت بعض المتاعب تواجهني في مرافقته. فقد اكتشفت ان المسكين لا يستطيع التسكع كالمراهقين أكثر من عشر دقائق أو ربع ساعة. بعدها يأخذ في الترنح والدوران حول نفسه وحول مرافقه، ولذلك كنت أجده في لحظة على يميني وفي اللحظة التالية على يساري. وعندما لا يجد مرافقه إلى جواره، يدور حول أي شيء، حول عمود كهرباء أو شرطي سير، أو حول نفسه. ويتابع طريقه وحديثه عن الشعر الحديث والشعر القديم. وفي باب ادريس حيث رافقته لشراء بعض الهدايا “لأم غيلان” أتعبني أكثر من ثلاثة صفوف في سن الحضانة، إذ ما أن يمر بزقاق أو زاروب فرعي حتى يترك طريقه الأصلي ويسلكه، وما أن يرى أي باب مفتوح حتى يدخله. باب دكان أو باب مستودع، ويتابع حديثه عن صلاح عبدالصبور وعمر أبو ريشة.مثلا، فيما نحن نهم بدخول نوفوتيه، يدخل هو صيدلية أو مكتب طيران أو فرن كاتو. وعندما زادها بعض الشيء قلت له أمام المارة، أما أن تظل ملازماً لي في كل خطوة وفي كل اتجاه، وأما أن أمسك بيدك أو أربطك بخيط وأعرف قراءك عليك وأنت في هذا الوضع.لكن في الأمسية الشعرية التي أحياها مساء في بيروت، انقلب إلى شخص آخر لم أعرفه ولم أرافقه خطوة واحدة من قبل. حتى إنني عندما رأيته يحدق بالحضور فردا فردا بكل ثقة وثبات، خفت منه، وانتقلت من الصف الأول إلى الصف الثامن أو التاسع, ومن هناك أخذت أراقبه، كل ما فيه كان كبيرا. قلبه، موهبته، رأسه، أذناه، ما عدا جسمه. كان المسكين، رأس.
وعندما تقدم من الميكروفون تحت الإضاءة نصف الخافتة، أمحت ملامحه كلها، ولم يبق بارزا منها أمام الجمهور سوى أسنانه، كانت جاحظة من خلال شفتيه بوضوح فيزيولوجيا وايديولوجيا حتى كادت تغطي الصف الأول من الحضور. وسط الصمت المطبق، صرح بقصيدته الجزائرية الشهيرة “من قاع قبري أصيح حتى تضج القبور”.وما أن انتهت الأمسية حتى كنت في الصف الأخير بسبب تدافع المعجبين والمعجبات للوصول إلى الشاعر الكبير، شاعر الحرية والثورة الجزائرية مقرظين مهنئين. ولكن ما أن سلمت عليه أول معجبة وهي تتنهد حتى ارتخى، وأخذ يصرفني من بعيد بإشارات متلاحقة من يده. وكلما ازداد عدد المتحلقات من حوله بثيابهن الفاخرة وعطورهن المثيرة، ركبه الغرور أكثر وأكثر، وراح يحلق في أجواء من المواعيد الوهمية والأجواء الكاذبة. إذ قال لي ما معناه، بأنه يعتذر عن مرافقتي تلك الليلة وربما لا يستطيع أن يراني أو يرى غيري حتى بعد يومين أو أسبوعين. وعاد لتبادل كلمات الإعجاب والاطراء مع المتحلقين من حوله. ولما كانت السماء ممطرة، وأعرف جيدا هذا النوع من الانبهار وتبادل العواطف والمجاملات أثناء ارتداء المعاطف والتهيؤ للانصراف على أبواب النوادي والمراكز الثقافية، فقد أشفقت على بدر.كان المطر ينهمر، والرؤية معدومة فوق البحر وفي الشوارع، عندما أخذت مصافحات الوداع والتمنيات باللقاءات في مناسبة أخرى تتوالى على مسامع الشاعر الكبير مع انغلاق أبواب السيارات وانطلاقا بمعجبيها ومعجباتها في ظلمات بيروت الضاجة الساهرة. وبقي بدر خارج القاعة وحيدا كالميكروفون في داخلها. وفجأة نسي كل شيء. وأقبل عليّ يدور حول نفسه كعادته، ووضع ذراعه في ذراعي وانطلقنا باتجاه منطقة البارات ضاحكين ساخرين.
وفي الطريق، أخذ يحدثني عن زيارته الأخيرة لايطاليا، وعن شغفه الجديد بالمعكرونة، ثم انتقل من المعكرونة للحديث عن شعر عبد الوهاب البياتي. ومن ثم عاد للحديث مرة أخرى عن ايطاليا ثم انتقل إلى ثرثرة المضيفات، وعن ولعه بالبحر، وتصميمه على تعلم السباحة بالمايوه. ثم انتقل من الحديث عن السباحة إلى الحديث عن ثورة الشواف في الموصل. وعندما قلت له: وما علاقة هذا الموضوع بحديثنا؟ نظر إلي عابساً وقال: هات "الكرافيت".
وفي البار تولى بدر شؤون السهرة. فأوقعنا بين يدي غانية ايطالية دوختنا قبل أن تحضر كؤوسنا دون أن نأخذ منها حقا أو باطلا، وخاصة وأن “بدر” من أول كأس لم يعد يعرف روما من بورما. حتى إذا جاء آخر الليل لم يكن معنا قرش واحد إلا ودفعناه على مائدتها. ثم انصرفت مع بدر وهي تدعي الوقوع في غرامه من أول نظرة والإخلاص له إلى الأبد.
وغادرت البار ولحقت بهما متباطئا دون أن يغيبا عن ناظري. وبينما كان بدر يرقص ويدور حولها كعادته ويغني لها الأغاني العراقية بصخب الأطفال، وإذ به يصمت فجأة ويختفي، وعلى الرصيف المقابل فوجئت به يجلس القرفصاء وحيدا على عتبة فندق، فسألته، ماذا تفعل هنا؟
- أنتظرها.
- وأين ذهبت؟
- صعدت إلى غرفتها لتغير ثيابها.
- وإلى أين ستذهبان بعد ذلك؟
- لا أعرف.فسحبته من يده وقلت له منفعلا، قم وكفاك جنونا، إمرأة على هذا القدر من السكر والنعاس، أتظنها قادرة على تبديل ثيابها والتبرج لجنابك في هذه الساعة من الليل. أؤكد لك أنها لن تصل إلى غرفتها حتى تنام على لحافها وحقيبتها في ذراعها. فقال بدهشة، غير معقول، لقد وعدتني.
فقلت له: ومن هي التي وعدتك؟ سهير القلماوي، أنديرا غاندي؟ قم ولا تشرشحنا أمام الناس لقد طلع الفجر.
ونهض، ومر بنا حارس ليلي فقال: ماذا تفعلان هنا؟ فقلنا له: لا علاقة لك بهذا الأمر. نحن من رواد حركة الشعر الحديث.
وانطلقنا في أول تاكسي باتجاه الفندق، ولكن في اللحظة التي وصلنا فيها وصل ترامواي وتوقف فترة هناك لجمع الركاب. وبعد ان ودعته، مضيت على أساس أن هذه الليلة انتهت على خير، ولكنه، وبدلا من دخول الفندق، دخل الترامواي وانطلق به وأظن أنه بهذه الطريقة دخل الحزب الشيوعي من قبل.

محمد الماغوط
كتاب [ سأخون وطني ] ص 240

البدع .. وتجربة مدرسة حقل التربوية (4)

هذه الرحلات والذكريات من كتاب (صدى السنين) للأستاذ عبدالله بوقس، حيث قام برحلات للمدن الحجازية الشمالية في السبعينات الهجرية، للإشراف وكتابة التقارير عن حالة التعليم .

"البدع..وتجربة مدرسة حقل التربوية" - بقلم/ عبدالله بوقس

تقع البدع في وادي "عفال" ويقال أن قوم سيدنا شعيب كانوا يسكنون في مغارات هذا الوادي ويقال لها "الشرفا"، وكانت البدع في الماضي عاصمة لمملكة "مدين القديمة" والتي كان بها البئر الذي استقى منه سيدنا موسى عليه السلام لبنات شعيب، وقد زارها المؤرخ عبدالله فيلبي وكان بودي أن توغل في المنطقة بحثا عن بئر موسى وآثار قوم شعيب، وما سمعته من أن بيوتهم الصخرية لا تزال آثارها باقية منحوتة في كهفوف الجبال، ولكن سائقنا قال أن الرحلة إليها محفوفة بالخطر، حيث تكثر فيها الحيات السامة فضلا عن وعورة الطريق، ومضينا نحو الجنوب الشرقي في منطقة جبلية عالية تسمى "الشرف" ومن أعلى جبل فيها يمكن أن تشاهد بوضوح خليج العقبة، وفي طريقنا كنا نشاهد بعض الأبيار القديمة التي كان يستقي منها الحج المصري حتى بلغنا مدينة حقل، وقد عرفت قديما بميناء "تيماء"، وتقع بوادي المبرك في منخفض تحيط به الجبال من الشمال والجنوب قريبة من خليج العقبة، ومدينة حقل حين زرتها لم يكن بها سوى إمارة صغيرة وعدد محدود من البيوت ومدرسة ابتدائية، وقد فوجئت في اليوم التالي حين زيارتي للمدرسة أن المدرسة مغلقة وعلى بابها "قفل"، وأسرعت لأمير القرية لاكتشف سر إغلاق المدرسة، حيث لا يوجد عطلة دراسية تستدعي ذلك. وابتسم الأمير وقال: مديرنا رجل نشيط لا يحب ضياع وقته إنه في المرعى حيث الأبناء يعاونون ابائهم في المرعى، وقد زودتهم بثلاث خيام وجملين لحمل أمتعة المدرسة معه.
ومضيت إلى المرعى فإذا بي أجد ثلاث خيام ولوحة كتب عليها "مدرسة حقل الابتدائية" ومدير المدرسة مع أساتذة المدرسة يقومون بواجب التدريس على أكمل وجه، والكل يعد درسه بكل اتقان ورغم أن مؤهل المدير متوسط إلا أنه رجل ذكي استفاد من خبرة المدرسين المتعاقدين الجامعيين الذي عينوا بمدرسته.
قلت لمدير المدرسة ما الذي جعلك تفكر في نقل المدرسة إلى المرعى، قال: حين شعرت بغياب مجموعة كبيرة من الطلاب واضطرارهم للذهاب مع ذويهم لمعاونتهم في المرعى، تدارست مع الأخوة المدرسين فكرة النقل إلى المرعى، وقدم لنا أمير القرية كل المساعدة بالخيام والجمال، ولكن واجهتنا مشكلة صعوبة إمكانية تنفيذ الجدول المدرسي النظامي، وأعددنا جدولا آخر يتيح لنا عدم الإخلال بالمنهج الدراسي والزمن المقرر للحصص، والدراسة في المرعى تبدأ بعد شروق الشمس وحتى زوالها على دفعات تبعا لظروف رعي الطلاب، وفي نفس الوقت قمنا باستغلال زمن الفراغ بين الحصص بفتح فصل لمحو الأمية لأولياء الأمور التلاميذ أو في المساء، حيث وجدت الفكرة ترحيبا جيدا وساعدت كثيرا في انتظام الدراسة للتلاميذ بتشجيع من أولياء الأمور.
وأعجبت كثيرا بفكرة معالجة غياب التلاميذ إبان موسم الرعي بالنقل إلى المرعى، وأوصيت في تقريري الفني بترفيع مدير المدرسة ورفع رواتب المتعاقدين بهذه المدرسة، وظلت هذه الفكرة مختزنة في الذاكرة لأنها عالجت مشكلة كبرى تواجه كافة مدارس القرى، حيث يكثر الغياب في مدارسها إبان حصاد موسم الأمطار واضطرار الرعاة إلى البحث عن مرعى جيد لأغنامهم، ونفذت هذه الفكرة في بعض مدارس القرى التابعة لمنطقة جدة بضواحي رابغ، وساعدني على تحقيقها المربي القدير المغفور له الأستاذ سليمان المحمدي المشرف على مدارس رابغ.
كما أن هذه التجربة العملية كانت موضع اهتمام في إحدى اجتماعات السادة مديري التعليم بالمناطق، حين طرحت فكرة المدارس المتنقلة كعلاج لمشاكل الغياب في مدارس القرى وظهر أثناء النقاش صعوبة التنفيذ سواء من حيث الكلفة المادية للفصول المتنقلة والسيارات التي تحمل عليها، وما قد يعترضها من صعوبة في الطرق الرملية وصيانة هذه السيارات إذا تعطلت .. وظلت تجربت مدير مدرسة حقل الابتدائية الأفضل والأقل تكلفة والأسرع تنفيذا.
أمضيت أسبوعا في مدينة حقل وأعجبت بتجربة قام بها أحد الأهالي، حيث نصحه بعض البدو ممن لهم خبرة بالتصنت لمواقع المياه في جوف الأرض وأكد له أن المياه متوفرة في الوادي وعلى مسافة قريبة ولا تحتاج إلى آلات ضخمة كالتي تحتاج إليها الآبار الارتوازية، فحفر بئرا واشترى من مدينة جدة آلة شفط تعمل بالبطارية ونفذ مشروع مزرعة صغيرة للفواكة والخضراوات، أثمرت وأينعت وآتت أكلها وكانت مصدر خير له، واليوم تعتبر مدينة حقل ذات موقع استراتيجي هام ازداد فيها النمو السكاني وأصبح الطريق إليها معبدا وسهلا وميسورا، يسلكه العديد من السعوديين والأردنيين في طريقهم إلى العقبة ومنها إلى الأردن، كما أن التعليم فيها اتسع حيث أصبح بها مدرسة للبنات ومدرسة متوسطة للبنين ومراكز حكومية.
تلك كانت خاتمة المطاف لرحلتنا للساحل الشمالي الغربي من جدة إلى حقل، وكان علي إكمال جولتي التفتيشية لمدارس المدينة المنورة وما حولها من قرى ثم التوجه إلى جدة ومنها إلى مكة المكرمة.
ولم نواجه متاعب تذكر في طريق العودة، حيث هدأت الأمطار وتوقفت السيول ولكن واجهتنا مشكلة "سست" السيارة الأمامية والخلفية بعضا فقد وآخر لم يعد صالحا، ولكن سائقنا الهمام استعاض عنه بجزعين طويلين من الأشجار وقام بربطها بالحبال، فكانت أحسن حالا وأكثر راحة ورفضت أن تستبدل بأخرى حتى انتهاء رحلتنا بالكامل .

كتاب ( صدى السنين) للأستاذ عبدالله بوقس .

الاثنين، 10 نوفمبر 2014

المويلح والسيل العارم (3)

هذه الرحلات والذكريات من كتاب (صدى السنين) للأستاذ عبدالله بوقس، حيث قام برحلات للمدن الحجازية الشمالية في السبعينات الهجرية، للإشراف وكتابة التقارير عن حالة التعليم .

"المويلح والسيل العارم" (3)   -   بقلم / عبدالله بوقس

الطريق من ضباء إلى المويلح يمر بعدد من الوديان أشهرها وادي الغال، وكان سيرنا بالقرب من الساحل مع انحراف تجاه الجنوب الشرقي، وتعتبر المويلح إحدى محطات الحج المصري قديما، وأشهر آثارها القلعة التي بنيت في عهد السلطان سليم العثماني، وذكر المؤرخ الأستاذ سيد عبدالمجيد بكر أن ابن قدامة وصفها بجودة الماء وطيب العيش وكثرة الأشجار، وبها سوق يرتاده البدو لبيع ما يحملونه من أغنام أو تمر أو عسل ..
ومدرسة هذه القرية صغيرة لا يوجد بها سوى فصل واحد ومدرس واحد، وحين زرتها رأيت مدرسها يردد عدة كلمات مكتوبة على السبورة يشير إليها بعصاته والتلاميذ خلفه يعيدون ما يقوله، ومضى أكثر من ربع ساعة على هذا الحال والرجل ينظر إلى باستغراب وهو لا يدري أنني المفتش، وحين عرفته بنفسي وطلبت منه دفتر التحضير قال لا تؤاخذني أيها المفتش أنا فراش المدرسة والأستاذ ذهب إلى السوق لِيحرّج على بضاعة البدو. وذهبت إلى السوق وقلت لعلي أتسوق بشيء يفيدنا في الرحلة، ووجدت العم حسن قد سبقنا واشترى بعض التمر والجبن والعسل.
وكان موقف المدرس صعبا حيث ضبط متلبسا بجرمه (مُحَرّج) إلى أنني لمست أن المدرس رغم كونه صاحب صنعتين (مدرس) و (مُحَرّج) إلا أن التلاميذ كانوا قد قطعوا شوطا طيبا من المنهج الدراسي، واكتفيت بحسم ثلاثة أيام من راتبه وأخذ تعهد عليه بترك الحراج وقصر عمله على وظيفته الأساسية كمدرس.
أمضينا يوما وليلة في المويلح وفي الفجر طلبت من العم حسن الاستعداد للرحيل حتى نصل نهاية رحلتنا للساحل الشمالي"حقل". كان الوقت شبه غائم لكن العم حسن أشار إلي بالانتظار لليوم التالي خشية ألا تفاجئنا السيول، لأن الطريق الذي نسلكه مجرى لسيل ضخم، وحسب خبرته فإن الطريق سيكون محفوفا بالخطر، ولم أصدق العم حسن لأني كنت أعرف أن له ثلاث زوجات بالطرق والرابعة بمكة المكرمة، وخشيت أن تكون زوجته الثالثة من سكان المويلح، ونفى العم حسن هذا الاتهام بشدة وأقسم أن زوجته الثالثة في حقل وليست هنا، ولأول مرة أعارض العم حسن ومضينا في طريقنا للبدع.
وبعد أن سرنا مسافة ساعتين توقف سائقنا وقال أنظر أمامك، وذعرت لقد كانت بداية سيل من الماء يتجه متدفقا نحونا وأسفت لعدم الاستماع لنصح العم حسن، ولكنه طمأنني وأسرع بالسيارة تجاه ربوة عالية في منتصف الطريق حتى بلغنا أعلى الربوة، وكان في مقدمة الربوة صخرة كبيرة وحمدت الله، لأن السيل بدأ يزداد قوة ولم نشعر بعد ساعة إلا وكأننا وسط جزيرة تحيط بها المياه من كل جانب، وبدأ الخوف يدب إلي قلبي وأنا أشاهد لأول مرة أشجارا ضخمة تجرفها السيول وجمالا وأغناما وصخارا تتدحرج مع اندفاع السيل لترتطم بالصخرة الكبيرة التي نحتمي خلفها فوق الربوة.
وحين غربت الشمس واشتدت الظلمة بدأ المطر يهطل بغزارة، والسيل يزداد قوة وساد الصمت بيننا واستعنا بتلاوة القرآن والدعاء لإنقاذنا من الهلاك، حتى إذا انبلج فجر اليوم التالي شعرنا بالفرحة والبهجة لأن السيل قد صب مياهه في جوف البحر، وبدأت مشكلة أخرى فطريق الربوة الخلفي قد طمره السيل وأزال رماله، ويحتاج لردمه من جديد لإمكان دحرجة السيارة إلى أسفل الربوة، وأمضينا أربعة أيام ننقل الرمال والأحجار لتسوية الطريق الخلفي حتى وفقنا الله لتسويته، وسرنا في طريقنا لا نلوي على شيء فالسيول قد جرفت كل أثر للطريق ودليلنا لا يكاد يبصر فهو إلى العمى أقرب ومع هذا كان أمهر من البصير، يمسك التراب بكفه ثم يضعه قريبا من أنفه ويقول نحن في مكان كذا وعلى بعد كذا ضلع جبل وعلينا أن نسير بمحاذاته ثم نتجه شمالا، وإذا ما نقص ما نحمله من ماء يرشدنا لأقرب مكان نستقي منه الماء بين الجبال .. مهارة غريبة لا نجدها إلا في رجال البادية الأذكياء.
ومضينا نشق طريقنا بكل صعوبة وسط أودية نتعثر في الرمال تارة وأخرى نقف لكي يقوم سائقنا بتنظيف ماكينة السيارة أو تشحيمها، وإبان وقوفنا مر بنا أحد الرعاة وحين عرف سائقنا أنه من بدو هذه المنطقة سأله عن أقرب طريق للبدع، أجاب على الفور بأنه مستعد لإرشادنا وركب بجانبي وأخذ يسلك بنا طرقا رملية، حتى كادت أيدينا تتمزق من كثرة حمل صاجات الحديد وأعيننا تتحجر من كثرة ما علقت بها الرمال، وبعد مسيرة ساعات برزت لنا ناقة وصاح البدوي هذه ناقتي التي فقدت مني، وطلب وقوف السيارة ليمسك بناقته وأدرك العم حسن أن البدوي غرر بنا للبحث عن ناقته وليس لإرشادنا للطريق، ولم  نسمع نصح الدليل للسير في الاتجاه الصحيح، وأمسك العم حسن في غضب بتلابيب البدوي حتى كاد يخنقه وانهال عليه بحديدة كانت بيده والبدوي يصيح مستنجدا "ذبحتني"، وأمسكنا بالعم حسن وهرول البدوي بناقته مسرعا خوفا من العم حسن، ومضينا في الطريق حتى وصلنا إلى مشارف البدع.

يتبع..