الأربعاء، 12 نوفمبر 2014

البدع .. وتجربة مدرسة حقل التربوية (4)

هذه الرحلات والذكريات من كتاب (صدى السنين) للأستاذ عبدالله بوقس، حيث قام برحلات للمدن الحجازية الشمالية في السبعينات الهجرية، للإشراف وكتابة التقارير عن حالة التعليم .

"البدع..وتجربة مدرسة حقل التربوية" - بقلم/ عبدالله بوقس

تقع البدع في وادي "عفال" ويقال أن قوم سيدنا شعيب كانوا يسكنون في مغارات هذا الوادي ويقال لها "الشرفا"، وكانت البدع في الماضي عاصمة لمملكة "مدين القديمة" والتي كان بها البئر الذي استقى منه سيدنا موسى عليه السلام لبنات شعيب، وقد زارها المؤرخ عبدالله فيلبي وكان بودي أن توغل في المنطقة بحثا عن بئر موسى وآثار قوم شعيب، وما سمعته من أن بيوتهم الصخرية لا تزال آثارها باقية منحوتة في كهفوف الجبال، ولكن سائقنا قال أن الرحلة إليها محفوفة بالخطر، حيث تكثر فيها الحيات السامة فضلا عن وعورة الطريق، ومضينا نحو الجنوب الشرقي في منطقة جبلية عالية تسمى "الشرف" ومن أعلى جبل فيها يمكن أن تشاهد بوضوح خليج العقبة، وفي طريقنا كنا نشاهد بعض الأبيار القديمة التي كان يستقي منها الحج المصري حتى بلغنا مدينة حقل، وقد عرفت قديما بميناء "تيماء"، وتقع بوادي المبرك في منخفض تحيط به الجبال من الشمال والجنوب قريبة من خليج العقبة، ومدينة حقل حين زرتها لم يكن بها سوى إمارة صغيرة وعدد محدود من البيوت ومدرسة ابتدائية، وقد فوجئت في اليوم التالي حين زيارتي للمدرسة أن المدرسة مغلقة وعلى بابها "قفل"، وأسرعت لأمير القرية لاكتشف سر إغلاق المدرسة، حيث لا يوجد عطلة دراسية تستدعي ذلك. وابتسم الأمير وقال: مديرنا رجل نشيط لا يحب ضياع وقته إنه في المرعى حيث الأبناء يعاونون ابائهم في المرعى، وقد زودتهم بثلاث خيام وجملين لحمل أمتعة المدرسة معه.
ومضيت إلى المرعى فإذا بي أجد ثلاث خيام ولوحة كتب عليها "مدرسة حقل الابتدائية" ومدير المدرسة مع أساتذة المدرسة يقومون بواجب التدريس على أكمل وجه، والكل يعد درسه بكل اتقان ورغم أن مؤهل المدير متوسط إلا أنه رجل ذكي استفاد من خبرة المدرسين المتعاقدين الجامعيين الذي عينوا بمدرسته.
قلت لمدير المدرسة ما الذي جعلك تفكر في نقل المدرسة إلى المرعى، قال: حين شعرت بغياب مجموعة كبيرة من الطلاب واضطرارهم للذهاب مع ذويهم لمعاونتهم في المرعى، تدارست مع الأخوة المدرسين فكرة النقل إلى المرعى، وقدم لنا أمير القرية كل المساعدة بالخيام والجمال، ولكن واجهتنا مشكلة صعوبة إمكانية تنفيذ الجدول المدرسي النظامي، وأعددنا جدولا آخر يتيح لنا عدم الإخلال بالمنهج الدراسي والزمن المقرر للحصص، والدراسة في المرعى تبدأ بعد شروق الشمس وحتى زوالها على دفعات تبعا لظروف رعي الطلاب، وفي نفس الوقت قمنا باستغلال زمن الفراغ بين الحصص بفتح فصل لمحو الأمية لأولياء الأمور التلاميذ أو في المساء، حيث وجدت الفكرة ترحيبا جيدا وساعدت كثيرا في انتظام الدراسة للتلاميذ بتشجيع من أولياء الأمور.
وأعجبت كثيرا بفكرة معالجة غياب التلاميذ إبان موسم الرعي بالنقل إلى المرعى، وأوصيت في تقريري الفني بترفيع مدير المدرسة ورفع رواتب المتعاقدين بهذه المدرسة، وظلت هذه الفكرة مختزنة في الذاكرة لأنها عالجت مشكلة كبرى تواجه كافة مدارس القرى، حيث يكثر الغياب في مدارسها إبان حصاد موسم الأمطار واضطرار الرعاة إلى البحث عن مرعى جيد لأغنامهم، ونفذت هذه الفكرة في بعض مدارس القرى التابعة لمنطقة جدة بضواحي رابغ، وساعدني على تحقيقها المربي القدير المغفور له الأستاذ سليمان المحمدي المشرف على مدارس رابغ.
كما أن هذه التجربة العملية كانت موضع اهتمام في إحدى اجتماعات السادة مديري التعليم بالمناطق، حين طرحت فكرة المدارس المتنقلة كعلاج لمشاكل الغياب في مدارس القرى وظهر أثناء النقاش صعوبة التنفيذ سواء من حيث الكلفة المادية للفصول المتنقلة والسيارات التي تحمل عليها، وما قد يعترضها من صعوبة في الطرق الرملية وصيانة هذه السيارات إذا تعطلت .. وظلت تجربت مدير مدرسة حقل الابتدائية الأفضل والأقل تكلفة والأسرع تنفيذا.
أمضيت أسبوعا في مدينة حقل وأعجبت بتجربة قام بها أحد الأهالي، حيث نصحه بعض البدو ممن لهم خبرة بالتصنت لمواقع المياه في جوف الأرض وأكد له أن المياه متوفرة في الوادي وعلى مسافة قريبة ولا تحتاج إلى آلات ضخمة كالتي تحتاج إليها الآبار الارتوازية، فحفر بئرا واشترى من مدينة جدة آلة شفط تعمل بالبطارية ونفذ مشروع مزرعة صغيرة للفواكة والخضراوات، أثمرت وأينعت وآتت أكلها وكانت مصدر خير له، واليوم تعتبر مدينة حقل ذات موقع استراتيجي هام ازداد فيها النمو السكاني وأصبح الطريق إليها معبدا وسهلا وميسورا، يسلكه العديد من السعوديين والأردنيين في طريقهم إلى العقبة ومنها إلى الأردن، كما أن التعليم فيها اتسع حيث أصبح بها مدرسة للبنات ومدرسة متوسطة للبنين ومراكز حكومية.
تلك كانت خاتمة المطاف لرحلتنا للساحل الشمالي الغربي من جدة إلى حقل، وكان علي إكمال جولتي التفتيشية لمدارس المدينة المنورة وما حولها من قرى ثم التوجه إلى جدة ومنها إلى مكة المكرمة.
ولم نواجه متاعب تذكر في طريق العودة، حيث هدأت الأمطار وتوقفت السيول ولكن واجهتنا مشكلة "سست" السيارة الأمامية والخلفية بعضا فقد وآخر لم يعد صالحا، ولكن سائقنا الهمام استعاض عنه بجزعين طويلين من الأشجار وقام بربطها بالحبال، فكانت أحسن حالا وأكثر راحة ورفضت أن تستبدل بأخرى حتى انتهاء رحلتنا بالكامل .

كتاب ( صدى السنين) للأستاذ عبدالله بوقس .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق