هذه الرحلات والذكريات من كتاب (صدى السنين) للأستاذ عبدالله بوقس، حيث قام برحلات للمدن الحجازية الشمالية في السبعينات الهجرية، للإشراف وكتابة التقارير عن حالة التعليم .
"المويلح والسيل العارم" (3) - بقلم / عبدالله بوقس
الطريق من ضباء إلى المويلح يمر بعدد من الوديان أشهرها وادي الغال، وكان سيرنا بالقرب من الساحل مع انحراف تجاه الجنوب الشرقي، وتعتبر المويلح إحدى محطات الحج المصري قديما، وأشهر آثارها القلعة التي بنيت في عهد السلطان سليم العثماني، وذكر المؤرخ الأستاذ سيد عبدالمجيد بكر أن ابن قدامة وصفها بجودة الماء وطيب العيش وكثرة الأشجار، وبها سوق يرتاده البدو لبيع ما يحملونه من أغنام أو تمر أو عسل ..
ومدرسة هذه القرية صغيرة لا يوجد بها سوى فصل واحد ومدرس واحد، وحين زرتها رأيت مدرسها يردد عدة كلمات مكتوبة على السبورة يشير إليها بعصاته والتلاميذ خلفه يعيدون ما يقوله، ومضى أكثر من ربع ساعة على هذا الحال والرجل ينظر إلى باستغراب وهو لا يدري أنني المفتش، وحين عرفته بنفسي وطلبت منه دفتر التحضير قال لا تؤاخذني أيها المفتش أنا فراش المدرسة والأستاذ ذهب إلى السوق لِيحرّج على بضاعة البدو. وذهبت إلى السوق وقلت لعلي أتسوق بشيء يفيدنا في الرحلة، ووجدت العم حسن قد سبقنا واشترى بعض التمر والجبن والعسل.
وكان موقف المدرس صعبا حيث ضبط متلبسا بجرمه (مُحَرّج) إلى أنني لمست أن المدرس رغم كونه صاحب صنعتين (مدرس) و (مُحَرّج) إلا أن التلاميذ كانوا قد قطعوا شوطا طيبا من المنهج الدراسي، واكتفيت بحسم ثلاثة أيام من راتبه وأخذ تعهد عليه بترك الحراج وقصر عمله على وظيفته الأساسية كمدرس.
أمضينا يوما وليلة في المويلح وفي الفجر طلبت من العم حسن الاستعداد للرحيل حتى نصل نهاية رحلتنا للساحل الشمالي"حقل". كان الوقت شبه غائم لكن العم حسن أشار إلي بالانتظار لليوم التالي خشية ألا تفاجئنا السيول، لأن الطريق الذي نسلكه مجرى لسيل ضخم، وحسب خبرته فإن الطريق سيكون محفوفا بالخطر، ولم أصدق العم حسن لأني كنت أعرف أن له ثلاث زوجات بالطرق والرابعة بمكة المكرمة، وخشيت أن تكون زوجته الثالثة من سكان المويلح، ونفى العم حسن هذا الاتهام بشدة وأقسم أن زوجته الثالثة في حقل وليست هنا، ولأول مرة أعارض العم حسن ومضينا في طريقنا للبدع.
وبعد أن سرنا مسافة ساعتين توقف سائقنا وقال أنظر أمامك، وذعرت لقد كانت بداية سيل من الماء يتجه متدفقا نحونا وأسفت لعدم الاستماع لنصح العم حسن، ولكنه طمأنني وأسرع بالسيارة تجاه ربوة عالية في منتصف الطريق حتى بلغنا أعلى الربوة، وكان في مقدمة الربوة صخرة كبيرة وحمدت الله، لأن السيل بدأ يزداد قوة ولم نشعر بعد ساعة إلا وكأننا وسط جزيرة تحيط بها المياه من كل جانب، وبدأ الخوف يدب إلي قلبي وأنا أشاهد لأول مرة أشجارا ضخمة تجرفها السيول وجمالا وأغناما وصخارا تتدحرج مع اندفاع السيل لترتطم بالصخرة الكبيرة التي نحتمي خلفها فوق الربوة.
وحين غربت الشمس واشتدت الظلمة بدأ المطر يهطل بغزارة، والسيل يزداد قوة وساد الصمت بيننا واستعنا بتلاوة القرآن والدعاء لإنقاذنا من الهلاك، حتى إذا انبلج فجر اليوم التالي شعرنا بالفرحة والبهجة لأن السيل قد صب مياهه في جوف البحر، وبدأت مشكلة أخرى فطريق الربوة الخلفي قد طمره السيل وأزال رماله، ويحتاج لردمه من جديد لإمكان دحرجة السيارة إلى أسفل الربوة، وأمضينا أربعة أيام ننقل الرمال والأحجار لتسوية الطريق الخلفي حتى وفقنا الله لتسويته، وسرنا في طريقنا لا نلوي على شيء فالسيول قد جرفت كل أثر للطريق ودليلنا لا يكاد يبصر فهو إلى العمى أقرب ومع هذا كان أمهر من البصير، يمسك التراب بكفه ثم يضعه قريبا من أنفه ويقول نحن في مكان كذا وعلى بعد كذا ضلع جبل وعلينا أن نسير بمحاذاته ثم نتجه شمالا، وإذا ما نقص ما نحمله من ماء يرشدنا لأقرب مكان نستقي منه الماء بين الجبال .. مهارة غريبة لا نجدها إلا في رجال البادية الأذكياء.
ومضينا نشق طريقنا بكل صعوبة وسط أودية نتعثر في الرمال تارة وأخرى نقف لكي يقوم سائقنا بتنظيف ماكينة السيارة أو تشحيمها، وإبان وقوفنا مر بنا أحد الرعاة وحين عرف سائقنا أنه من بدو هذه المنطقة سأله عن أقرب طريق للبدع، أجاب على الفور بأنه مستعد لإرشادنا وركب بجانبي وأخذ يسلك بنا طرقا رملية، حتى كادت أيدينا تتمزق من كثرة حمل صاجات الحديد وأعيننا تتحجر من كثرة ما علقت بها الرمال، وبعد مسيرة ساعات برزت لنا ناقة وصاح البدوي هذه ناقتي التي فقدت مني، وطلب وقوف السيارة ليمسك بناقته وأدرك العم حسن أن البدوي غرر بنا للبحث عن ناقته وليس لإرشادنا للطريق، ولم نسمع نصح الدليل للسير في الاتجاه الصحيح، وأمسك العم حسن في غضب بتلابيب البدوي حتى كاد يخنقه وانهال عليه بحديدة كانت بيده والبدوي يصيح مستنجدا "ذبحتني"، وأمسكنا بالعم حسن وهرول البدوي بناقته مسرعا خوفا من العم حسن، ومضينا في الطريق حتى وصلنا إلى مشارف البدع.
يتبع..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق