الأربعاء، 5 نوفمبر 2014

بين أملج والوجه (1)

هذه الرحلات والذكريات من كتاب (صدى السنين) للأستاذ عبدالله بوقس ، حيث قام برحلات للمدن الحجازية الشمالية في السبعينات الهجرية، للإشراف وكتابة التقارير عن حالة التعليم.

"بين أملج والوجه "     -    بقلم/ عبدالله بوقس

بين أملج والوجه الرحلة التالية من زيارتنا التفتيشية مائة واثنان وسبعون كيلو مترا، وكان الطريق الذي نسلكه له شهرته التاريخية كمحطات هامة للحجاج، ذكر اسمها في العديد من كتب الرحالة الذين جابوا هذا الطريق مع قوافل الحج (كالحوراء) التي تقع إلى الشمال من أملج، وتعرف حاليا باسم الحنك و (أكرا) الذي أطلق على موضعه بئر القصير على وادي الحمض أشهر أودية الحجاز .

طرق عسيرة كان لابد من عبورها ما بين أودية وتلال، وتبرز لنا مجموعة من الجزر على شكل قوس جزيرة يقال لها (شيبارا) .
يقول المؤرخ سيد عبدالمجيد بكر أن اسم الوجه اشتق من (المواجهة) والمقصود مواجهة ركب الحجيج. وتقع المدينة على الساحل مرتفعة عن سطح البحر. وقدر عدد سكانها وفق إحصائية 1394هـ، ( 145000 نسمة) وكانت تعتبر من المحطات الهامة للحجيج، ويطلق عليها أهل البلد (لبنان الساحل) وقد كانت لها تجارتها مع السويس بالنسبة للمنتجات التي اشتهرت بها، كالفحم النباتي والسمن والصوف والأسماك. وأشهر عوائل مدينة الوجه ( آل بديوي) كان منهم مدير المدرسة ومدرس، عدا بعض الأفراد العاملين في دوائر أخرى. وقد أعجبتني مدينة الوجه وحق لأهلها تسميتها بلبنان الساحل، لجودة موقعها المرتفع عن سطح البحر ونسيمها العليل. وكان مسكني في دار يطل على البحر مباشرة، ويحلو لي الوقوف على شاطئها لرؤية قرص الشمس وهو يختفي تدريجيا في مياه البحر، وكنت أتمنى لو كان معي آلة تصوير أو كنت من الفنانين لرسمت أعظم لوحة فنية ... في هذه المدينة تعرفت بالدكتور سعيد شاهين، وقد سعدت بمعرفته وصداقته التي امتدت حتى وقتنا الحاضر، وازدادت عمقا في المحبة والوفاء .. وإني أغمط هذا الصديق العزيز على عمق مودته وأخوته، ويستحيل أن تمل حديثه وظرف قفشاته ونكاته الحلوة ... وهو طبيب ماهر ترتاح لعلاجه وأدويته، وحين كنت مدير عام للتعليم في جدة، كان لدينا وحدة صحية علاجية تضم مجموعة من التخصصات الطبية، ومع هذا كان أخي الدكتور سعيد شاهين، الطبيب الذي أرتاح لعلاجه وكان يعتبر طبيب الأسرة ...

أمضيت في مدينة الوجه خمسة أيام، لم يفارقني فيها أخي سعيد وما أن ينتهي الدوام الرسمي حتى نذهب معا في رحلة صيد برية لصيد الأرانب البرية والحمام، أما الغزلان فكنت أتحاشاها خوفا من تهور صديقي الدكتور سعيد ومطاردته العنيفة، التي قد تسبب لنا متاعب، أما هوايته في صيد الأسمك لم تكن في حاجة إلى قارب أو (لنش)، يكغي أن نقف على الشاطئ نلقي بالسنارة فنلتقط سمكة أو قرشا، وما أكثر القروش البحرية التي كانت تضايق هواة الصيد، ولابد من سحبها على الشاطئ لإخراج السنارة منها ثم تركها على الشاطئ، وفي إحدى الليالي كنا نصطاد على ضوء القمر وإذا بقرش هائل يمسك بسنارة أخي سعيد، وظل في عراك عنيف معه بين شد ورخي، ولمحت أخي سعيد قاب قوسين أو أدنى من أن تنزلق قدمه إلى الماء ليدخل في صراع مع وحش البحر، فجذبته بكل قوتي تجاه الشاطئ، لأن الصراع مع مثل هذا الوحش البحري داخل مياه البحر يزيده قوة وصلابة، وبعد أن أفاق أخي سعيد من هول الصدمة قال: أتحسبني خائفا منه لكنه لن يفلت مني للمرة الثانية .

ما أحلى صيد البحر وأجمله وأيسره وأغلاه (الاستاكوزا) ولا أدري ما اسمها باللغة العربية، كنا نطاردها حين تخرج على الشاطئ أو بالقرب منه، لنغرس فيها أرماحا مدببة الرأس ثم نقوم بأكلها، وبعض الأهالي يحتفظ بها داخل أكياس لبيعها على قادة الطيران الذين يهبطون بالطائرات في الوجه لتموين طائراتهم بالوقود ...

وأهل الوجه خبيرون بطبخ صيادية السمك، وإن كان ينافسهم في هذا أهل رابغ، وإن كنت أعترف أن صيادية الوجه أحسن مذاقا للبهارات التي تستعمل في إعداد الصيادية مع ما لذ وطاب من أنواع السمك الأخرى، وأخشى ألا تغضب صراحتي أصدقائي الأوفياء من أهل رابغ.

وقد ذكر المؤرخ محمد لبيب البتنوني في كتابه الرحلة الحجازية أن الوجه قرية على خط عرض 26 درجه و14 دقيقة وخط طول 36 درجة و37 دقيقة، وبها نحو أربعين بيتا، وعدد أهلها لا يزيد عن خمسمائة شخص، ويشرف على القرية تلة من ورائها عليها قلعة حصينة، وبها ثلاث مساجد يقصدها في أيام الجمعة كثير من العربان الذين يسكنون في ضواحيها، وأثناء إقامتي بها كان أخي الدكتور سعيد يزودني بماء عذب، لأن مياه الصهاريج التي تخزن فيها مياه السيول لم تكن صافية والشاي يحتاج لماء عذب وصافي حتى يستطاب طعمه ويعجبك لونه الأحمر القاني.

كنت أود لو طال بي المقام في مدينة الوجه، لحسن وفاء وكرم الصديق دكتور سعيد شاهين، لكن الرحلة طويلة وأمامي مدن كثيرة لابد من أن أفتش على مدارسها وفق برنامج رحلتي، واستأذنت صديقي دكتور سعيد مودعا، وزودني بمجموعة من الأدوية وبعض الأرزاق، كالعدس الصعيدي الممتاز الذي يستورد من مصر والسمن البري وبعض الأسماك المقددة، ومضيت لأستعد للرحلة التالية (ضباء).

يتبع..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق